مقدمة عن تدريب العاملين

الإنسان أعظم ثروة وأهم عمل تنموي تقوم به أمه من الأمم هو تنمية القدرات البشرية لديها، ولا يتم ذلك إلا بعد الكشف عن نقط التماس ومستويات التحريض التكنولوجي في أي عمل من أعمال التربية والتعليم والتدريب المستمر... "
المقدمة
حين نتناول الوسائل التعليمية وتقنياتها في أحد مجالات البحث والدراسة إنما نتناول الدور الذي تلعبه في تحقيق أهداف العملية التعليمية، وليكن ما نأخذ به هنا تعريف التعلم الذي تبنته الأسكد
وهو " كل تغيير في السلوك أو المعارف أو المفاهيم أو الاتجاهات أو المهارات أو القدرات التي لا تعود إلى النمو العضوي أو إلى عوامل وراثية". [مجلة التربية الجديدة، ع7 ديسمبر 1975].

وترجع أهمية هذا البحث إلى الآمال العريضة التي تنتظرها الأمم النامية من أبنائها الذين ترى فيهم طاقة ديناميكية تكونها أو تشكلها مؤسساتها العلمية وفق ما ترجوه من أهداف تتطلع نحو اللحاق بالأمم المتقدمة، أو ليست الحضارة سباق بين التعلم والنكبة على حد قول H. G. Wells. وإذا كانت طبيعة الكائن البشري واحدة لكل من الإنسان الذي يعيش في الحضارة المتقدمة وذاك الذي يعيش في الحضارة غير المتقدمة هذه الطبيعة الوثابة دوما والمتحركة دائما والتي لا تستقر على حال تبحث عن التجديد والتطوير، فهي لا تلبث تمثل ما يحيط بها، تتفاعل مع ما حولها من مؤثرات حتى يعيد تصويرها من جديد على شكل تركيبات إنشائية مستحدثة تقف على آخر ما وصل إليه هرم التطور، فما الذي يحول دون تحقق ذلك لدى أبناء الدولة النامية، كما هو متحقق لدى أبناء الدول المتطورة، ما دامت المؤسسات التعليمية تنتشر بنفس الاتساع تقريبا في كلا الحضارتين، ومما يدعو إلى الدهشة أحيانا كثرة الإنفاق وارتفاع معدله في الحضارة الثانية.

وهذا ما يدفع المربين إلى الوقوف قليلا أمام حقيقة ما يجري في مؤسساتنا التربوية، وهنا تتجسم التحديات في منعطف طريق صعبة ؛ لأن عليها أن تسير بتاريخ يوازي الفارق بين مكان وقوفها والمكان الذي وصلته الدول المتقدمة، ولا سبيل إلى ذلك إلا الأخذ بالجديد مما تقدمه تكنولوجيا التعليم مع التأكيد على دقة الأخذ بها وعلى تأكيد <<>> فعاليتها وإنتاجيتها التي تقاس بالأداء والكفاية، أو تحقيق مبدأ أدجرا جيمس سوفيت.
"وكما أن الاقتصاد في الطاقة هو الشغل الشاغل لرجال الميكانيك، فكذلك هو الشغل الشاغل للمربين، فالكفاية ـ نسبة العمل المفيد إلى الطاقة المستهلكة ـ يمكن زيادتها بتقليل المقاومة، أو باستخدام مزيد من الطاقة، وقد جعل المعلمون من إنتاج الطاقة الشغل الشاغل لدرجة كبيرة" [التعليم والتعليم ـ أي ـ جي هيوز ـ 1975]. على أن يتم الأخذ بالتكنولوجيا اعتمادا على أنفسنا بالدرجة الأولى والأخيرة ؛ لأن حقيقة الهوة التكنولوجية ليست أمرا حقيقيا بين الدول النامية المتطورة، بل هي كذلك حتى بين الدول الأكثر تقدما في العالم ففي مطلع عام 1980 تشددت الولايات المتحدة ومنعت الروس من الاستفادة من التكنولوجية الأمريكية على اعتبار أن الولايات المتحدة وفق تقديراتها تتفوق على الروس في هذا المضمار في حدود تقديرية تعادل 5 سنوات ولم تقف الولايات المتحدة عند هذا الحد، بل إنها مارست ضغطا على حلفائها من الدول المتقدمة لتحذو حذوها في منع التكنولوجيا عن الروس ودول حلف وارسو، فإذا صح هذا المنطلق بين دول عظمى تقع في قمة التطور والتقدم، والفاصل الزمني الحضاري فيما بينها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من السنوات، فكيف يمكن أن ننظر للموضوع مقارنة بين دولة في القمة وأخرى في بداية سلم التطور.

إن التطرق لمثل هذه المسألة يدفع بنا للبحث عن مثل حضاري وربما كان الشعب الياباني خير مثال، فهو الذي قبل ذات يوم التحدي حين طرقت أبواب اليابان وللمرة الأولى طرقات مدافع بوارج الكمودوربيري، فعزلت اليابان نفسها اختياريا وبوعي تنموي كبير قدرت مدى اتساع الهوة الحضارية التي تفصل بينها وبين بلد كالولايات المتحدة الأمريكية، فخططت اليابان مسيرتها الحضارية التي بدأتها من نقطة الصفر، واعتمدت على نفسها، وفي مدى سنوات قصيرة نسبيا وعلى الرغم من فقرها المالي والطبيعي والتكنولوجي، استطاعت أن تبرز للعالم، وخلال فترة زمنية لا تزيد على 25 سنة، أغرقت الأسطول الروسي في سواحل منشوريا وقهرت الجيش الروسي في عام 1905.والأمر الذي وعته اليابان في يقظتها ومسيرتها التنموية هو التنمية البشرية، هذا الشعور الذي التزم به الشعب الياباني وقادة التربية والتعلم حيث وجدوا في التعليم والتدريب أمرا لا مفر منه من أجل التطور، فأعدوا له جميع مقوماتها فيما ندعوه بالمؤسسات التربوية والتعليمية مراكز التدريب. والتزموا بقواعد سلوكية ثابتة طبقوها على جميع أبنائهم المتعلمين وهم في مرحلة التنشئة والتكوين، ومن ثم وهو على رأس أعمالهم في ميدان التطبيق والعمل البناء.

وأن لنا وقفة قصيرة عند هذه المسألة لنؤكد أن التنمية البشرية والحضارية لا تقاس بعدد المدارس والمعاهد والكليات والجامعات تلك التي تقام في بلدنا، كما أنها لا تقاس بنسبة ما يخصص أو يرصد لها من مبالغ في ميزانية الدولة، ولا بنسبة عدد المتخرجين ممن يحملون الشهادات العليا، إذ أنه ليس لهذه الأرقام أية دلالة اللهم إلا إذا تصدرتها مؤشرات الخبرة الفعلية المعززة بالأداء الفعلي، لأن الشهادات التي تقوم على غير ذلك تكون هشة القوام ضعيفة البناء الفكري والتكوين الاستجابي لمتطلبات التنمية الإنتاجية، إذ أن الأعمال بنتائجها وما يتحقق من أهدافها.

وإذا جاز لنا أن نسأل الإنسان الذي يباشر عمله في مجتمعه كعنصر نسأله إن أحسن صنعا في مجال الكفاية الإنتاجية، فمن حق هذا الإنسان علينا أن يسألنا، أن يسأل المؤسسات التي عملت على تكوينه وإعداده، أن يسأل الكوادر الفنية التي رعته طيلة تلك المرحلة السابقة لنزوله إلى ميدان العمل، من حقه أن يسال إن كنا قد أحسنا تكوينه وإعداده وتدريبه، وهذه المسألة هي منطقية الأحداث، فالمؤثر دائما يسبق رد الفعل. وهنا يحسن بنا أن نشير إلى أهمية التدريب على التعليم كما أكد على ذلك سكنر، فالتدريب يختار موضوعات محددة ذات أهداف واضحة، ويقوم التقويم على التحقق من فاعلية الحل إذا كان الموضوع مشكلة أو قياس فاعلية الأداء، أما التعليم الذي يسيطر على أكثر مؤسساتنا التربوية فهو ما يزال يسير على خطوات تقليدية، فهو تعليم ذو أهداف غير محددة والأداء فيه لا يقيس إلا مقدار الحفظ والتذكر، والتقويم غير محدد المعايير تلعب فيه العوامل الذاتية.

من هنا كان من أولى المسائل التي ينبغي أن تثار في مجال التنمية والتطور هي البحث عن أساسيات التعليم والتدريب التي تحقق مضمون المعادلة التالية:
برامج + أهداف + وسائل وتقنيات التعليم + ؟ + ؟... = سلوك يتفق مع الأهداف المحددة في مستويات الأداء.
<<>> أي أن تأخذ بما يدعى بالهندسة السلوكية، إذا ما أردنا أن نسد الفجوة الحضارية بيننا وبين الدول المتقدمة، لا سيما وأن تراكما هائلا من المعلومات والمعارف الجديدة تضاف كل يوم إلى تراث البشرية، ويقدر هذا بحدود تزيد عن 103 حقائق جديدة كل 24 ساعة، وعليه ليس المهم أن نكدس هذه الحقائق ونجمع تلك المعارف على شكل برامج تعليمية أو تدريبية متضخمة تبدو لنا وكأنها شكل جشتاليتي غير منسجم الملامح ندفع به نحو المتعلمين الذين لا يلبثون أن يردوه إلينا بنفس القوة ؛ لأنه يقدم بطرق وأساليب ويرافقه أحيانا وسائل مساعدة جميعها تجعل منه شيئا غير قابل للهضم بل ولا للاستمتاع البصري أو الحاسي على أقل تقدير.
إن المعادلة الصعبة في موضوعنا هي الكشف عن نقاط التماس المتضمنة في أية عملية تعلم أو تعليم أو تدريب، وأن يكون ذلك من خلال إدراكنا للدور الذي تلعبه الوسائل وتقنياتها في الموقف التعليمي وبما يتفق ومدى فهمنا لطبيعة الإنسان المتعلم لنصل معه إلى الخبرة والمعرفة بإدراك عقلي لمعنى الموقف الذي يواجهه المتعلم وعلى ضوء عناصر المواقف التي يتكون منها، وبأسلوب تنمو معه الجوانب النفسية المرافقة للموقف من جراء تفاعلها مع العناصر الحسية المكونة لها.

نقطة التماس:
المثال البسيط في تبيان ما نعنيه بنقطة التماس هو ما يقال عن النقطة الهندسية التي تلامس فيها نقط من محيط دائرة خطا مستقيما يلامسها، فإنها تمس بنقطة واحدة ونقاط الدائرة لن تمس الخط المستقيم ما لم تتحرك الدائرة على الخط المستقيم في واحد من اتجاهين، وفي مثل هذه الحالة إن النقاط التي تمس الخط المستقيم تتوالى الواحدة تلو الأخرى وفق نظام متسلسل يحددها طبيعة الإدراك المكاني والزماني لموقع النقط وحركة الدائرة، أو حركة الخط المستقيم.
والمثال الثاني الذي يحسن ذكره هو كم نقطة تماس يمكن أن تحصل من جراء تقاطع خطين مستقيمين متعامدين أو غير متعامدين، إنها نقطة واحدة في الموقف الواحد، وفي حال حركة أحدهما على الآخر أو الاثنين معا فلن يكون هناك أكثر من نقطة تماس واحدة.
والمثال التطبيقي الثالث هو ذاك الذي نستمده من ميدان الكهرباء، فإن مصباح الإضاءة لا يمكن أن يضئ أو يتحول من حالة السكون أو اللاتوهج إلى حالة الحركة والتوهج ما لم يحدث التماس بين نقطتي قطبي التيار السالب ـ والموجب.
والمثال الرابع الذي نتحدث فيه عن التحريض ونقطة التماس هو الجرس الكهربائي، فهنا لن يتحول الجرس من حالة السكون إلى حالة الانفعال ما لم يحدث التماس بين مجموعة نقاط وبإحكام دقيق، وأن يحدث التحريض في قطعة الحديد اللينة التي تتحول إلى مغناطيس متذبذب (متنادب) نتيجة تنادب نقطة التماس بين القطع والوصل، وبذا نسمع صوت الجرس الناتج عن التماس والتحريض.
والأمثلة كثيرة مما يقع بين أيدينا لا سيما في مجال الأجهزة والمعدات الإلكترونية تشير بقوة إلى ما ذهبت إليه حول نقطة التماس، ومبدأ التحريض.
وإن طبيعة الكائن البشري (الإنسان في الموقف التعليمي) لا تختلف في كثير عن ذلك بل هي في تماثل شبه تام، فالإنسان يضئ نتيجة التقاء تيارين (تماسهما) التيار البيولوجي، والتيار الحضاري، على رأي عالم النفس الفرنسي تارد، وإذا تساوى الناس وعلى وجه التقريب في امتلاك التيار الأول فإنهم يختلفون في نسبة امتلاك (أو قوة) ما يقع عليهم من مؤثرات التيار الثاني التي ينالها كل منهم في المراحل المختلفة من مراحل التعليم، أو التعلم، أو التدريب ؛ ولهذا نستطيع أن نميز الناس في المجتمع الواحد وفيما بين المجتمعات المختلفة بين إنسان يتوهج بقوة 10 واط وآخر يتوهج بقوة 1000 واط،... إلخ.

وما الكائن البشري إلا طاقة كامنة وهبها الله القدرة على أن تتأثر بكل ما يحيط بها وتتشكل تبعا لذلك فتتحول من مستوى اللاعلم إلى مستوى العلم والمعرفة وقد جاء في كتابه العزيز سورة النحل الآية 78
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل 78).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق