مقترح بمنح قيادات القطاع العام حق اختيار مساعديهم

محمد بن خالد العبد الله الفيصل
ضمن سلسلة من القرارات الحكيمة، أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أخيرا زيادة رواتب غالبية موظفي قطاع الدولة في المملكة بنسبة 15 في المائة. وهي بلا شك بداية موفقة لعهد خادم الحرمين الشريفين ومؤشر آخر على أن قيادة هذه البلاد عازمة، كما هو حالها دائماً، على أن يحصل كل فرد من أفراد الشعب السعودي على حقه من ثروة بلاده. كما جاء هذا القرار الحكيم ليعالج وضعاً غير طبيعي تَعَرّضَ له هذا القطاع المهم، حيث لم تطرأ أي زيادة تُذكر على رواتب موظفي الدولة منذ ما يقرب من 25 عاماً، على الرغم من تزايد أعباء الحياة وارتفاع تكاليف المعيشة.
وبالرغم من هذا، يظل السؤال الرئيسي مطروحاً دون إجابة، وأجزم أنه السؤال نفسه الذي يطرح نفسه بقوة في أذهان قيادة البلاد بالقدر نفسه، ألا وهو:كيف نتبع القرار السابق بقرارات أخرى تساعد موظفي القطاع العام في بلادنا على العمل بجهد أكبر لتحقيق دور كل منهم وهدفه في خدمة المواطن السعودي؟ أو باختصار، ما الأدوات الأخرى التي يمكن استخدامها لكي يصبح القطاع العام في بلادنا أكثر كفاءة؟
قد لا أبالغ في القول إنه كلما طرح هذا السؤال نفسه على الحضور في أحد المنتديات (وهو سؤال يطرَحُ نفسه كثيراً)، تئن الغالبية بالشكوى وتربط تحليلاتهم المطوّلة التوصل إلى حل لهذه المشكلة بمدد زمنية للإصلاح تراوح بين ثلاث وخمس سنوات لدى قليل من المتفائلين، قد تزداد إلى عشرة أو 20 عاماً لدى غالبية المتشائمين، بل يصفه البعض بأنه غاية صعبة المنال، ويتفرق رأي الحضور بين الإحباط والاستحالة.

ومع ذلك فإنني أعتبر أن في هذا الرأي خللا أصيلا سواء في تحليل السبب أو المدخل إلى الحل. لأننا لو ألقينا نظرة أوسع وأشمل إلى مجمل الصورة، سنجد أن غالبية الآراء تميل إلى القفز فوراً إلى ما يعتقدون أنه المرحلة الأخيرة من الحل، بدلاً من محاولة إيجاد أفضل نقطة بداية. كما أن الغالبية نفسها تنظر دائما إلى مجمل حجم التحدي فتحلل وتستنتج وتخطط لحل المشكلة في لمحة واحدة راغبة في الانتقال من حال اليوم إلى الغد بقفزة عملاقة واحدة من التغيير، دون وعي منها لخطأ ذلك.
ويظل السؤال الأكثر واقعية كيف نبدأ؟ وأين؟ ما الهدف السهل لنبدأ به؟ ما الحل الذي يمكننا أن نبدأ بتطبيقه اليوم لكي نجعل من إصلاح القطاع العام في بلادنا مهمة أسهل مستقبلاً؟
لقد أظهرت غالبية التحليلات في علم الإدارة وأساليب التغيير أن اللجوء إلى أسلوب التغيير الشامل أو ما يطلق عليه ''التغيير بضربة واحدة - big bang change'' أمراً غير مرغوب فيه، لما يمثله من مخاطر كبيرة ومغامرة غير مأمونة الجوانب. قد يصلح هذا الأسلوب للتطبيق في المختبرات أو المعاهد البحثية، إلا أنه بالتأكيد لا يتناسب مع المجتمعات الكبيرة لما قد ينتج عنه من تأثيرات سلبية واسعة النطاق، ولكن ينصح في مثل هذه الحالات بتجزئة أي هدف كبير إلى عدة أهداف مرحلية صغيرة يسهل التعامل مع كل منها على حدة، حيث أظهرت أيضاً نتائج البحوث في مجال التغيير الإداري حقيقة أن 80 في المائة من حجم التحديات والمشكلات يمكن حلها بإحداث تغيير قدره 20 في المائة فقط من الوضع القائم حالياً، وهو ما يطلق عليه اسم (قاعدة الـ 80 - 20).
وخلال الجزء التالي من المقالة أود أن يسمح لي القارئ أن أوجز ما أراه أسلوبا متدرجا للإصلاح من خلال تطبيق ثلاث خطوات رئيسية في قانون وهيكل القطاع العام. وفي اعتقادي أن هذه الإجراءات أو الخطوات الإصلاحية إذا ما طُبقت ستكون أقل من مفهوم التغيير الشامل، ولكنها في الوقت نفسه ستكون بمثابة حافز أكبر بالنسبة لموظفي القطاع العام، أو بمعنى آخر هي نسبة الـ 20 في المائة من الإصلاح المطلوب لإحداث تغيير قدره 80 في المائة لحل المشكلة.
والخطوات الثلاث المقترحة تتلخص فيما يلي: زيادة التدريب وتطوير نوعيته لموظفي القطاع العام
لنتفق أولاً أنه حتى إذا ما أتينا بأفضل موظفي العالم إخلاصا وتفانيا فإنه لن يتمكن من تأدية مهام العمل الموكلة إليه دون أن يحصل على التدريب المناسب. كما يجب أن نتفق أيضا على أن بيئة العمل اليوم تشهد تطورات متسارعة جداً. فالتحدي الذي يواجه موظفي القطاع العام اليوم لا ينحصر في مجرد أداء مهامهم فحسب، بل يتعداها ليشمل فهم وإدراك متطلبات العملاء والتجاوب معها، سواء كان العميل هو المواطن، أو القطاع الخاص أو القطاعات الحكومية أو المدنية. فالعالم حولنا آخذ في التغير، بحيث أصبح التعليم والتدريب بالنسبة للفرد عملية مستمرة، وتلاشى بالتالي مفهوم التعليم والتدريب لمرة واحدة طوال فترة حياة الفرد.
لذا فالمقترح الأول هو أن تخصص الحكومة بنداً ثابتاً لتدريب وتطوير الموارد البشرية ضمن ميزانية كل مؤسسة في القطاع العام، وأن تكون عملية التدريب والتطوير مبنية على أسس وطبقاً لسياسة محددة كتحديد عدد معين من ساعات التدريب التي يجب أن يحصل عليها الموظف كل عام مثلاً. كما يجب ربط التدريب والتطوير بخطة محددة تتيح للموظف التقدم في مجال عملهCareer Planning. ليكون الهدف تطوير موظفي القطاع العام لأداء مهامهم الحالية، وإعدادهم للتقدم في وظائفهم، والتأكد من أنهم يمتلكون أدوات المعرفة اللازمة لرفع إنتاجيتهم. والأهم من ذلك هو التأكد من أن برامج التدريب المُقَدَمةِ هي فعلاً البرامج المطلوبة كماً وكيفاً.
تطبيق وتنفيذ نظام يتمتع بالشفافية للتقييم والمكافأة المالية للأداء المميز

يعتبر موظف القطاع العام المؤهل والحاصل على التدريب الكافي بمثابة أحد الأصول المهمة. ولكن في غياب الدافع، تصبح تلك الأصول عديمة الجدوى وعالية التكلفة.وغالباً ما يتهم المواطنون والعاملون في القطاع الخاص، غالبية موظفي القطاع العام بالكسل وعدم الكفاءة، وبأنهم عقبة في طريق التطور في كثير من الأحيان، وهي ردود أفعال مبالغ فيها، لكن ذلك لا ينفي وجود عدد لا يستهان به من موظفي القطاع العام غير المنتجين والذين يؤثرون سلباً على أداء القطاع بمجمله.
وهنا يجب أن نتفق مرة أخرى على أن موظفي القطاع العام في الدولة هم مواطنون يملكون حساً وطنياً بالقدر نفسه مثلنا جميعاً، وغالبيتهم تعمل بجد واجتهاد، ولكن أحياناً ينظر الفرد حوله ليجد أنه في نهاية الشهر يتساوى الجميع في الأجر، سواء من أدى منهم بنسبة 10 في المائة من جهده أو ذلك الذي أدى بنسبة 110 في المائة من الجهد، أي أن أداء واجب العمل أو خدمة العميل لا يفرق بين المجتهد والكسول. قد يحصل الموظف المجتهد على درع أو ساعة عند التقاعد، لكن يظل هذا هو أقصى المنال. بل الأسوأ أن المجتهد إذا ما أخطأ (كل نشاط بشري قد ينتج عنه أخطاء) فإنه سيخضع بكل تأكيد للعقاب أو المساءلة. إذاً فنحن هنا نتعامل مع حالة واضحة من حالات الظلم الوظيفي.
لذا فالمقترح الثاني يتضمن إيجاد نوع من (الحافز) لمن يؤدي عمله على الوجه الأفضل، وإلا كيف نتوقع من موظفي القطاع العام أن يؤدوا واجباتهم دون الاعتراف بحسن أدائهم ومجازاتهم عليه، في الوقت نفسه الذي نتفنن في إيجاد وسائل العقاب إذا ما ارتكبوا خطأ ما.
هنا تكمن أهمية إيجاد نظام بسيط وفي الوقت نفسه شفاف لتقييم الأداء يكون متعدد المصادر، ويتم من خلاله تحديد أفضل 10 في المائة من موظفي كل دائرة ومكافأتهم. ونقصد بمتعدد المصادر هنا هو أن يخضع أداء الموظف للتقييم من قبل عدد من الأطراف مثل مديري وزملاء العمل وموظفي القسم التابعين له وأيضاً العملاء، وهو ما يطلق عليه نظام تقييم الـ 360 درجة 360 Degrees، فإذا كان الموظف من ضمن قائمة أفضل 10 في المائة، يحصل مثلاً على مكافأة تعادل ثلاثة أشهر من الراتب.إن وجود هذا النظام من شأنه تغيير أسلوب وطريقة التفكير لدى غالبية موظفي القطاع العام، حيث سيوجد الدافع لتحسين الأداء، والأهم أنه سيوجد نظاما واضح اوعادلا وشفافا للتقييم يتيح للموظف أن يبرز داخل منظومة العمل، كما يتيح له الترقي ضمن عملية تقدم منظمة. باختصار، يهدف نظام التقييم إلى مكافأة أفضل الموظفين أداءً كما أنه يضع معاييرا واضحة للترقية مبنية على الكفاءة الوظيفية والاجتهاد.
منح الحرية لقيادات القطاع العام في اختيار أطقم العمل
لقد شهدنا في مناسبات عدة تعيين وزراء وكبار موظفي القطاع العام، كان يحدوهم الأمل ويملؤهم النشاط ولديهم الرغبة في إحداث التغيير المنشود، وهو ما انعكس علينا بالأمل، ولكن بعد فترة تبرز المفاجأة بأنهم بقدر ما تحدثوا كثيراً، فقد ندرت النتائج الملموسة. ويظل السؤال الأهم كيف نجح هؤلاء في إدارة أعمالهم وحياتهم الخاصة، بينما واجهوا الفشل في القطاع العام حين كانت المهام الموكولة إليهم أكثر أهمية وأعظم خطورة؟ لكن ما لم ندركه هو أنه لكي تنجح إدارة القطاع العام في مهمتها، فإنه تتساوى أهمية اختيار القيادة تماماً مع أهمية إتاحة الفرصة لهذه القيادة في اختيار فريق العمل المساعد.
لذا فإن المقترح الثالث محوره إتاحة الحرية، وكذلك المسؤولية لقيادة القطاع في اختيار طاقم العمل المساعد، يلي ذلك المحاسبة في حال النجاح أو عند الفشل في تحقيق الأهداف الموضوعة.

لذا ينصب الاقتراح الثالث من أجل التغيير على أن نتيح لقيادة القطاع العام ما يلي:توظيف وإعفاء موظفي القطاع العام لمن هم أدنى مرتبتين (بالنسبة للوزراء تكون لهم صلاحية توظيف، وإعفاء وكلاء الوزارة ومساعدي وكلاء الوزارة أو من هم في الدرجة الرابعة عشرة فأعلى طبقاً لسلم الوظائف في القطاع).
السماح لقيادة القطاع العام بتحديد الرواتب والمكافآت التي تتيح لهم استقطاب أفضل الكفاءات لمن هم في الدرجة الرابعة عشرة فأعلى. وإذا تعذر ذلك يمكن إعطاء هذه القيادات صلاحيات واسعة لمنح بدلات وحوافز إضافية كافية لاستقطاب الكفاءات الجيدة للعمل على هذه الوظائف دون تغيير في سلم الرواتب الحكومي. وهذا راجع إلى أن موهبة القيادة هي عملة نادرة، حيث تجد مؤسسات القطاع العام نفسها في منافسة غير متكافئة مع شركات ومؤسسات القطاع الخاص لاستقطاب هذه الكفاءات، وفي أغلب الحالات يكون الفوز حليف القطاع الخاص، لأنه ببساطة شديدة قادر على أن يقدم مزايا ومكافآت أفضل من تلك التي يعرضها القطاع العام. فحتى لو أراد شخص ما أن يخدم وطنه من خلال الالتحاق بوظائف القطاع العام، فإن المزايا والمكافآت المعروضة مع رغبته في توفير مستوى لائق من المعيشة يدفعه كل ذلك بعيداً عن وظائف هذا القطاع، ومن ثم يكون المجتمع هو الخاسر الأكبر. والنتيجة هي أن يصبح القطاع العام غير قادر على استقطاب الكفاءات من كبار المديرين من القطاع الخاص.
لذا فالاقتراح هو أن يتم التعامل مع موظفي القطاع العام ممن هم في الدرجة الرابعة عشرة فأعلى على أساس أنهم من مديري القطاع الخاص طبقاً لما هو منصوص عليه في سياسات قانون العمال، ومساواتهم بالمديرين العامين، ورؤساء الشركات، والمديرين التنفيذيين ورؤساء مجالس إدارة الشركات في القطاع الخاص. وقد يكون المقياس لسلم الرواتب والحوافز والبدلات هو سلم رواتب الشركات الشبه حكومية مثل ''أرامكو'' و''سابك'' وشركة الكهرباء.
في النهاية، إذا ما نظرنا بتفحص للخطوات السابقة، نجد أنها قابلة للتطبيق، بل إننا لم نخترع أياً منها، فهي خطوات مُجَربة بالفعل في القطاع الخاص، والنتائج المترتبة عليها واضحة وجلية عن تلك التي في القطاع العام.وهنا أود أن أستشهد بقول السيد دي هوك، رئيس مجلس إدارة شركة فيزا العالمية ''التغيير ليس في إدراك أشياء جديدة أو حتى الخروج بأفكار جديدة، بل التغيير هو رؤية الأشياء القديمة بعيون جديدة، ومن زوايا مختلفة. فالتغيير عبارة عن إعادة تنظيم، وإعادة هندسة، وإعادة اكتشاف وإعادة استثمار. أو بمعنى آخر إعادة صياغة.
فعندما تقوم بإعادة صياغة شيء ما، سواء كان فكرة، أو موقفا، أو منتجا ما، أو حتى شركة، فإنك بذلك تخلق نظاماً جديداً تماماً''. إن قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بزيادة الرواتب بنسبة 15 في المائة هو قرار شجاع وحكيم، يستحق أن يبادره المسؤولون في وزارة الخدمة المدنية باتخاذ قرارات أخرى مماثلة في الشجاعة، بحيث يقود هؤلاء المسؤولون ثورة إدارية لإصلاح مسار هذا القطاع الحيوي. إن إصلاحا مقداره 20 في المائة يمكن أن يؤدى إلى تغيير مقداره 80 في المائة، حتى نعيد الروح إلى القطاع العام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق