تدريب العاملين بالمملكة







تحتفي المملكة هذه الأيام بمرور عشرين عاماً على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - يحفظه الله - مقاليد الحكم واستلهام الدروس المستفادة لمواصلة مسيرة التطور المستقبلي.لقد شهدت المملكة خلال هذه الفترة طفرة إنمائية غير مسبوقة شملت مختلف مسارات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والتنظيمية والسياسية. وفي ظل المعطيات والتطورات والمتغيرات التي صاحبت هذه التنمية الشاملة، انتقلت المملكة إلى مرحلة جديدة اتسعت فيها مجالات النشاطات الصناعية والزراعية والتجارية والاجتماعية والخدمية المتطورة، التي تعتمد على تقنيات وأساليب ووسائل وتنظيمات حديثة تمكن من استغلال الموارد المتاحة وتهييء لاستمرارية مسيرة التنمية والرخاء والرفاهية للمجتمع.إن التنمية في المملكة تستهدف في محصلتها النهائية الارتقاء بالمواطن السعودي وتحقيق الحياة الكريمة المتطورة له وللأجيال القادمة من المواطنين، فهذا المواطن ظل محور اهتمام الدولة منذ توحيد المملكة على يد المغفور له الملك عبدالعزيز، حيث سعت الدولة منذ ذلك الحين إلى تعزيز مكانته في مجتمعه، ورفع مستوى حياته، من خلال بناء وتنمية شخصيته من جوانبها المختلفة، بصورة تتفق مع المباديء الإسلامية والقيم الإنسانية، وتستجيب لروح ومتطلبات العصر، وكذلك من خلال تنمية المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً، وتهيئة الفرصة للمواطن للعمل والمشاركة الفاعلة في النهوض بمجتمعه والمحافظة على مكتسبات هذا المجتمع.في سياق هذا الاهتمام وضعت المملكة ركائز وأساسيات تنمية الموارد البشرية الوطنية منذ حوالي أربعة عقود، وجاءت البدايات التخطيطية في هذا المجال من منظور جزئي أو قطاعي مواكب لظروف واحتياجات تلك المرحلة، إلا أن تنمية الموارد البشرية اتجهت منذ الأخذ بأسلوب التخطيط الشامل للتنمية في المملكة قبل حوالي ثلاثين سنة إلى المنحى التكاملي، واتخذت سمات خاصة ومتميزة في أهدافها وبرامجها خلال العقدين الأخيرين اللذين أعقبا اكتمال بناء التجهيزات الأساسية والبنية التحتية للاقتصاد الوطني.وتواكبت بدايات تنمية القوى البشرية مع تطور البناء المؤسسي للدولة، وحدوث توسع كمي ونوعي في الأجهزة وأنشطتها، وبالتالي زيادة حاجة تلك الأجهزة إلى كوادر وطنية قادرة ومؤهلة لإدارتها وقيادة مسيرة التنمية، لذا سارت الجهود في تلك المرحلة في اتجاهين متوازيين، وهما بناء جهاز حكومي يتمتع بالفعالية والكفاءة، وبناء قاعدة عريضة للتعليم والتدريب لتوفير القوى العاملة القادرة على إدارة هذا الجهاز.ونتيجة لذلك تطور التعليم بجميع مراحله، وبدأت أولى خطوات هذا التطور بإنشاء المديرية العامة للمعارف في عام 1344ه التي تحولت في عام 1373ه إلى وزارة للمعارف تشرف على جميع شؤون التعليم والثقافة في البلاد، وكان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز أول وزير للمعارف. وتلا ذلك إنشاء الرئاسة العامة لتعليم البنات في عام 1380ه لتتولى مسؤولية تعليم الفتاة السعودية إدارياً وفنياً، لما للمرأة السعودية من خصوصية مستمدة من القيم والتعاليم الإسلامية، فأعطيت وضعية خاصة في نظام التعليم تراعي تلك الخصوصية وتتيح فرصة التعليم لكل فتاة راغبة في ذلك.ومنذ ذلك الوقت تسارع نمو التعليم في المملكة، ونتج عن ذلك زيادات كبيرة في أعداد المدارس والمعاهد والكليات وأعداد الملتحقين بها من الطلاب والطالبات، وخصوصاً خلال فترة العشرين عاماً الماضية، فعلي سبيل المثال ارتفع عدد المدارس والمعاهد والكليات من 11070 مدرسة وكلية في عام 1399-1400ه إلى 25067 مدرسة وكلية في عام 1418-1419ه، وارتفع عدد الملتحقين والملتحقات بها من 1462000 طالب وطالبة إلى 4486000 طالب وطالبة خلال نفس الفترة.إن الاهتمام بالتعليم توجه في بداية التخطيط الشامل للتنمية في المملكة إلى التوسع الكمي بغرض نشر الوعي والمعرفة وإزالة الأمية من جهة، ومواجهة الاحتياجات الكبيرة من العمالة بمختلف مستوياتها وفئاتها المهنية، وخصوصاً احتياجات القطاع الحكومي من الجهة الأخرى. إلا أن هذا الاهتمام واجه تحديات أثرت في عملية توظيف العمالة الوطنية وتوطين الوظائف، فالتوسع في التعليم لاستيعاب الأعداد المتزايدة من السعوديين في سن التعليم، قلل من إمكانية المواءمة بين مخرجاته واحتياجات سوق العمل، وأدى إلى صعوبات في توظيف بعض الخريجين.كما أن التغييرات الهيكلية في الاقتصاد الوطنى، واستخدام التقنيات الحديثة المتطورة، وتقلص الفرص الوظيفية في القطاع الحكومي، وزيادة دور ومساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، أدت إلى تغييرات في احتياجات التنمية من العمالة لا تتفق مع كثير من مخرجات مؤسسات التعليم والتدريب، مما أوجد اختلالات جعلت المملكة تواجه تحديات تتعلق باختيار الأنساق التعليمية التي تتفق مع متطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل، وزيادة فرص توظيف العمالة الوطنية في القطاع الخاص، والحد من العمالة الوافدة.ولمواجهة هذه التحديات وضعت حلول وسياسات عديدة، حيث جعلت المملكة من معالجة قضايا تنمية وتطوير القوى البشرية الوطنية وتوظيفها أهم المرتكزات الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويبدو ذلك من تفاعل خطط التنمية المتعاقبة مع تطورات ومشكلات سوق العمل، فبدأ التركيز منذ بداية الخطة الرابعة على قضايا توظيف العمالة الوطنية والإحلال وتوطين الوظائف، وقضايا التطوير النوعي للتعليم العام والعالي، وعلى أهمية المواءمة بين مخرجات المؤسسات التعليمية والتدريب واحتياجات سوق العمل، وزيادة الطاقات الاستيعابية لمؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني والكليات التقنية كماً ونوعاً لمواجهة متطلبات الاقتصاد الوطني، وكذلك وضع السياسات الكفيلة بتشجيع القطاع الخاص على توظيف العمالة الوطنية والحد من اعتماده على العمالة الوافدة، وذلك إلى جانب الأهداف والسياسيات المتعلقة بتنويع القاعدة الاقتصادية ومصادر الدخل وتشجيع الاستثمار في مختلف القطاعات وخصوصاً الصناعية والإنتاجية بغرض تنشيط النمو الاقتصادي وإيجاد المزيد من فرص العمل.وفي الإطار المؤسسي أولت المملكة أهمية كبيرة للتخطيط للقوى العاملة ضمن الإطار العام للتخطيط الشامل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الذي انتهجته منذ عام 1390ه، فأنشأت مجلس القوى العاملة في عام 1400ه مرتبطاً برئيس مجلس الوزراء ومسؤولاً عن التخطيط للقوى العاملة وتنميتها وتطويرها وتدريبها وتنظيم الاستفادة منها في كافة الأنشطة الاقتصادية، سواء على المستوى الجزئي أو الكلي، الحكومي أو الأهلي.ولأداء هذه المسؤولية أنيطت بالمجلس مهام عديدة تتمثل في: دراسة الاحتياجات من القوى العاملة السعودية وغير السعودية بفئاتها المختلفة طبقاً لاحتياجات ومتطلبات خطط وبرامج التنمية، واقتراح التنسيق بين البرامج الحكومية المختلفة لتنمية طاقات المملكة البشرية من خلال التأكُّد من كون البرامج التعليمية والتدريبية متفقة مع الاحتياجات من العمالة، ورسم السياسات لتوزيع القوى العاملة في المملكة بغرض تحقيق الاستفادة القصوى منها والحد من العمالة الوافدة، ووضع السياسات لتنويع مهارات القوى العاملة الوطنية وزيادة مساهمتها فى مجموع القوى العاملة، ووضع السياسات الكفيلة بإعطاء العمالة الحوافز المادية والمعنوية التي تشجع على العمل.ولتحقيق هذه المسؤوليات قام مجلس القوى العاملة منذ إنشائه بدراسات وأبحاث في مجالات القوى العاملة المختلفة، تم في ضوئها وضع وتنفيذ العديد من الخطط والسياسات في مجالات اختصاصه، سواء على مستويات عامة تغطي قطاعات عريضة من الاقتصاد الوطني أو على مستويات متخصصة تشمل قطاعات وأنشطة اقتصادية وفئات مهنية محددة. ويشمل أهم ما تم اتخاذه في هذا المجال، على سبيل المثال، استراتيجية تنمية القوى العاملة التي تغطي خمس وعشرين سنة والتي تتكون من مرتكزات وثوابت وأهداف عامة وفرعية وموجهات عمل لتحقيق تلك الأهداف. كما عمل المجلس على تطوير وتوسيع قاعدة التعليم الفني والتدريب المهني وتحسين نوعيته من خلال القيام برفع مستوى التدريب في العديد من معاهد التدريب إلى كليات تقنية، وإيجاد كليات تقنية جديدة، وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة الفعالة في الجهود التدريبية وافتتاح معاهد ومراكز تدريب أهلية. كما وضع خططاً وسياسات لإدارة وتشغيل العديد من المرافق العامة والقطاعات الاقتصادية الحيوية بالعمالة الوطنية، وعمل على قصر العمل في بعض الأنشطة على السعوديين، وذلك إلى جانب وضع قواعد لزيادة توظيف العمالة الوطنية في القطاع الخاص صدر بها قرار مجلس الوزراء رقم (50) وتاريخ 21-4-1415ه.وتركز اهتمام مجلس القوى العاملة على وجه الخصوص بالتوظيف ومشكلاته في القطاع الخاص، الذي يعتبر المجال الطبيعي لاستيعاب وتوظيف العمالة الوطنية المتزايدة، لكونه يمثل القطاع الأرحب والأوسع نشاطاً والأقدر على الاستمرار في تنمية فرص العمال بمجالاته المتنوعة، ولذلك أوصي المجلس بإنشاء صندوق تنمية الموارد البشرية الذي وافق عليه مجلس الوزراء في 29-4-1421ه بغرض دعم التدريب والتوظيف في هذا القطاع وتشجيعه على القيام بدور أكبر في استقطاب وتدريب وتوظيف الشباب السعودي الباحث عن العمل وتحمل جزء من التكاليف المترتبة على ذلك.وفي إطار هذا الاهتمام بالقطاع الخاص درج مجلس القوى العاملة على عقد سلسلة من الندوات واللقاءات الدورية المنتظمة بين المسؤولين في الدولة ورجال الأعمال لمناقشة قضايا توظيف العمالة الوطنية في القطاع الأهلي. بالإضافة إلى تشكيل لجان دائمة للسعودة بالمناطق الرئيسية بالمملكة برئاسة أمراء هذه المناطق أسفر عملها عن مردودات إيجابية نحو زيادة إسهام المواطنين في سوق العمل، وقضايا الإحلال والسعودة. كما تمت مراجعة مشروع نظام العمل والعمال وما يتصل به من إجراءات ليكون أكثر مواكبة للمستحدثات والمتغيرات المستمرة في سوق العمل، وهذا المشروع مازال قيد الإقرار من المقام السامي. كما صدر نظام التأمينات الاجتماعية بعد تطويره ومواكبته للمرحلة الآنية والمستقبلية.ورغم هذه الجهود، فإن هناك الكثير من التحديات والمشكلات الماثلة التي تواجه سوق العمل في المملكة، وفي مقدمتها قضية توطين الوظائف في القطاع الخاص، واستمرار تواجد العمالة الوافدة وتدفقها بأعداد كبيرة في وقت تواجه فيه أعداد من المواطنين مشكلات في الحصول على عمل، وكذلك استمرار مشكلة المواءمة بين مخرجات النظم التعليمية والتدريبية والاحتياجات من القوى العاملة. وهذه القضايا وغيرها من المسائل المهمة الأخري ذات العلاقة، هي حالياً محل اهتمام كبير وتركيز في مجلس القوى العاملة والجهات المعنية الأخرى، والتي يجب معالجتها وفق رؤى متكاملة وأساليب مبتكرة. وهذا الاهتمام بقضايا القوى العاملة لا يأتي فقط للتعامل مع المشكلات الآنية القائمة وإنما من رؤية استراتيجية لأهمية العنصر البشري باعتباره القوة الرئيسية للإنتاج، والعنصر الأساسي والجوهري في ترجمة خطط وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى مشاريع هادفة وإنجازات ملموسة. كما أن التطورات الكبيرة في الساحة الاقتصادية الدولية، والعولمة، والتقدم التقني المتسارع كلها عوامل تضيف أبعاداً كثيرة لأهمية تنمية الموارد البشرية الوطنية بما يتواكب مع المستجدات والمتغيرات على المستوى المحلى والدولي وحسن استخدامها لتحقيق الآمال والطموحات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق